"السيدة البارونة تريد رؤيتك فوراً ."
نهضت من مكانها بسرعة قبل حتى أن ترفع رأسها نحو الخادم الذي ألقى عليها الأوامر ..وهرعت تتبعه بقلق واحتراز
تركت في الغرفة رجلين وامرأتين ..صاحت إحداهن بصوت مرتفع وهي تقف وتسير جيئة وذهاباً بلا هدف
" سحقاً .. مالذي قد تريده والدتي من هذه القذرة المشردة ..وفي وقت احتضارها بالذات .."
وافقتها أختها الواقفة قرب النافذة بكره شديد ، متحدثة بغيظ وازدراء لشخص الفتاة التي يتحدثون عنها
" ليس وكأننا أبناؤها الحقيقيون والتي أنجبتهم بطريقة شرعية تماماً ، كما أننا نحمل دمها واسمها وليست هي "
ساد الصمت بينهم للحظات معدودات ..وباشرت الأخت الأولى تصيح مجدداً متوجهة بنظرها إلى حيث الرجل الجالس أمامها
" مابك شارل ؟ أنت الأكبر هنا قل شيئاً ..هل ستسمح لتلك الفقيرة بالحصول على والدتنا ؟ ، هل ستسمح لها بأن تجعلنا نبدوا لا شيء أمامها "
عاودت أختها الأخرى تقول بالكره الدنيء ذاته
" سوف تضرب بمكانتنا لدى والدتنا عرض الحائط "
قهقه الرجل الأخير في الغرفة بصوت مرتفع ، ورمق أشقاءه حوله بتهكم ..وبدا مستمتعاً بتوترهم وعصبيتهم
" عزيزتي ماريا لقد ضربت بمكانتكم عرض الحائط منذ أتت هنا "
حملقت به بحقد ، وهي له كارهة و على صدق كلماته ناقمة ..
اكفهر وجه المدعو شارل وتطلع إلى إخوته اللذين وأخيراً قد اجتمعوا على شيء ما ..وشيء سيء أيضاً
" لا تقلقوا ..أعدكم يقيناً بأنني لن أسمح لها بالحصول على أي شيء هنا ...تلك الغجرية الفاسقة "
***
" اغفري لي حبيبتي سابيينا ..فأنا لا أسبب لكِ إلا المشكلات "
رسمت على وجهها الفاتن ابتسامة مطمأنة .. وغادرت مكانها فوق سرير السيدة البارونة ..بدلت قطعة القماش بأخرى باردة ومسحت بها جسدها الساخن الذي أصابته الحمى وزادته إعياءً إلى ما به من ألم
" سيدتي ، أنا بخير ما دمتِ معي ... المهم الآن أن تأخذي قسطاً من الراحة حتى تشفي من المرض وتعودي إلينا سالمة"
نقلت بصرها إلى سقف الغرفة المرتفع وهمست بصوت مخنوق ، متألمة
" صدقيني يا حبيبتي أنتِ الوحيدة التي تريد مني أن أشفى ..أؤكد لكِ أنهم ينتظرون بفارغ الصبر رحيلي "
" لاتقولي هذا ..إنهم أبناؤك وأنا متأكدة أنهم قلقون عليكِ، ليتكِ رأيتِ وجوههم القلقة المضطربة في الخارج"
ابتسمت ساخرة وأطلقت ضحكة ضئيلة ..متمتمة بألم
" آه يا سابيينا ..ما أرق فؤادكِ لا تزالين تحاولين إراحة قلبي الضعيف ..ولكن صدقيني أنا أمهم وأثق بنواياهم كثقتي بأن
لون عينيك فاحم السواد ..مع أنني أفضل رؤية مآقيكِ في الحقيقة "
ضحكت لها مجاملة كما تفعل دائماً ، والحقيقة أنها تعرف جيداً أبناء سيدتها العطوف ، وأفكارهم البائسة القذرة
وتعلم أنهم قلقون من أن تغير والدتهم وصيتها وتذر بكل أملاكها لها .. ومع أنها هددتهم بذلك كثيراً إلا أن قلبها الرقيق رفض القيام بذلك ..
" دعيني أرى وجهكِ الفاتن يا ابنتي ، لا أعرف كيف عساي أترككِ تقاسين وجودهم وتسلطهم الدائم .. آه كم كنت أتمنى الموت ..ولكن منذ قدومكِ أصبحت الحياة ملونة وأكثر جمالاً في نظري ،كم أتمنى لو يطيل الله بقائي فأنعم برؤيتكِ صباح مساء"
جلست على السرير مجدداً وانحنت فوق سيدتها لتدعها تتأمل وجهها المحبب إلى قلبها
ابتسمت بوجع ..ومسحت فوق خدها العسلي الناعم..استغرقت وقتاً طويلاً قبل أن تقول بعاطفة وقَادة
" آه ما أجملكِ يا سابيينا ..وما أروع دفء عينيك السوداوين .. لقد تمنيت كثيراً أن أرى الشخص الذي اختاره الله ليتزوجكِ
أثق بأنه سيكون الأسعد حظاً .."
لم ترد إخبارها بأن أحداً لن يتزوج من غجرية كانت فقيرة مشردة ، لولا اعتناء بارونة رحيمة بها لكانت على الأرجح فتاة هوى
" حبيبتي..ادعي شارل لرؤيتي ..يجب أن أخبره بشيء مهم..لعل وعسى يكفر عن أخطائه بأمه المسكينة .."
راحت تنفذ أمرها على عجل ..وفي ثواني معدودة كان ابنها البكر راكعاً قرب سريرها..مكفكفاً دموعه المتساقطة
ومقبلاً كف والدته المجعدة
" شارل يا ولدي..لقد فعلت أشياءً سيئة كثيرة لأمك المسكينة ..ولست ألومك فأنت وإخوتك كوالدكم الراحل
قساة ، جفاة .. فاليسامحكم الله على أفعالكم ..وليبارك لكم في أفعالكم الطيبة "
أظهر الضعف أمام والدته التي تحتضر وضم يدها المرتجفة إلى صدره بقوة
" يا ولدي لست أوصيك إلا بشيء واحد..وعدني أن تنفذه..اعتني بسابيينا جيداً ولا تعاملها أنت وإخوتك بسوء
إنها وحيدة بدوني ، وضعيفة كذلك ..عدني يا عزيزي وطمأن قلب والدتك..ودعني أمت مرتاحة وراضية عنك على الأقل"
التزم الصمت وصك على شفاهه بغيظ قبل كفها مظهراً كل الوجع ..وألصق جبينه بحافة السرير الخشبية
" أعدكِ يا والدتي الحبيبة ..فالترقد روحكِ بسلام ..."
لم يكن عليه قول ذلك فقد رحلت روحها الى بارئها ، وسكن جسدها المرتجف بين يديه
رمقها مطولاً بعدم استيعاب وهز جسدها عدة مرات غير مصدق لموتها ، وضع أذنه عند صدرها ولم يساوره شك في توقف قلبها عن النبض ..تمالك نفسه ونهض واقفاً ملقياً بالغطاء فوق وجهها ... تمعن مرة أخرى في التحديق بجسدها الساكن
وغادر المكان بسرعة نحو إخوته المضطربين عند باب الغرفة
ازداد خفقان قلبها فور ما أبصرته يخرج من عند سيدتها ..وأسرعت نحوه تتأمل في وجهه ، تطمح أن ترى شيئاً يؤكد لها أن البارونة ستكون بخير ..
إلا أنه لم يلقِ لها بالاً بل قال بصوت جامد ، ونبرة أشد برودة من الثلج
" لقد ماتت ."
شهقت بعدم تصديق وتجاوزته مهرولة إلى داخل الغرفة ، لكن يده قبضت عليها ودفعها بقسوة بعيداً نحو الجدار
" قلت لكِ لقد ماتت أيتها الغجرية القذرة "
سألته أخته الأولى بفزع ويدها تتشبث بساعده ، تأمل أن يطمئن قلبها
" وثروتها ؟ "
ابتسم لها بسخرية وانتزع باشمئزاز يده منها مغمغماً بعدم اهتمام
" إنها لنا ."
لم يأخذ الأمر منها وقتاً طويلاً قبل أن تقهقه بصوت عالي وتتعثر في سيرها كثملة بلهاء
" يا إلهي ..لقد انتظرت هذا طويلاً ...لقد أردت هذا كثيراً ...الآن وأخيراً هذا المنزل سيكون لي .."
اقتحمت أختها ماريا الغرفة تبحث بجنون عن شيء ما ..والتقطته بعصبية من فوق الطاولة المستديرة ، ضحكت بخفوت
" إنه لي ..وأخيراً ."
اقتربت أختها منها وانتزعت حجر الياقوت بين يديها ..صاحت في وجهها بحقد
" إنه لي ..هذا الياقوت لي أنا ...أنا الأخت الكبرى هنا "
راحت البنتان تتشاجران كالبهائم على حجر لا يغني ولا يسمن من جوع ..
اختنقت سابيينا بعبراتها ..ولم تصدق أن هؤلاء الأشخاص قد يشعرون هكذا تجاه أمهم المسكينة ، التي ربتهم وتعبت عليهم
وجهت نظرها إلى الأخوين الصامتين والذي راح أكبرهما يفتح خزنة والدته ويصب ما بها من نقود في جيوبه
" أعتقد أنكم نسيتم شيئاً بالغ الأهمية هنا "
تمتم بها شقيقهم الأصغر والذي وقف مكانه محملقاً بسابيينا بدناءة واضحة ... اقترب منها وعلى وجهه تلك النظرات المحتقرة
" الآن أيتها الغجرية الفاسقة ..ما من أحدٍ لتختبئي خلفه .."
ازدرت ريقها بحذر ..وعادت بجسدها للوراء مبتعدة ..ذكريات الماضي القاسية بدت كما لو أنها تعيد نفسها من جديد
اقترابه منها ، الحدة المنبعثة من عينيه..ويده ..يده التي ستمتد لتصفعها ، لتقطع شعرها الأسود
انتصبت واقفة وحاولت الابتعاد والعودة لغرفتها ..على الأقل حتى يأتي المحامي العجوز الطيب
خاب أملها عندما وجدت نفسها بين الأختين المتوحشتين واللتان بدون تمهل ..راحتا تضربانها وتركلانها بعنف
ضربات أحست سابيينا معها أن روحها ستخرج في أي لحظة وستلحق بسيدتها .. رباه كم كتموا من حقد طوال السنين السابقة
كما لو أنهم كانوا ينتظرون هذه اللحظة التي يستفردون بها..ويمزقونها كما تفعل الكلاب المسعورة
انتُزِعت منها مجوهراتها الثمينة ، وتمزقت ثياب الحرير الناعمة .. وانتهى الأمر بهم لأن يدفعوها من أعلى السلم ..
تحسست بيدها الأرض التي وصلت إليها أخيراً وكتمت دموعها المنتظرة عند أهدابها تنتظر الإذن بالهطول
آه كم هي رقيقة ومهذبة دموعها
تأوهت بوجع..محاولة النهوض من مكانها بعد الرحلة الجميلة التي مرَت بها حتى وصلت للأرض ..غمغمت لنفسها متهكمة
" سيدتي..آوه كم أنا موشكة على اللحاق بكِ ."
ماكادت تنهض جالسة حتى فاجئتها تلك القدم الضخمة المرتطمة بصدرها..، اختفى الهواء من حولها وشعرت بنفسها تختنق
وهذه المرة انهمرت بعض الدموع من مقلتيها الواسعتين ..
" سحقاً لكِ من فاسقة .. تستحقين هذا وأكثر.."
رفعت قدمها لتركلها في وجهها الحسن الفاتن ..إلا أن شقيقها الأكبر أبعدها بأن وضع يده أمامها
" دعيها ماريا ... لا تريدين التورط بالمشاكل إن قتلتها .."
بدا الاقتناع عليها أخيراً ، وبالطبع لم يكن في داخل سابيينا أي أمل بأن أحداً من هؤلاء سيرحمها ، وسيعاملها جيداً لأجل والدته على الأقل..
انتزعها من الأرض كما لو أنه يجتث نبتة جذورها تخترق الأعماق..أحست بعظام رسغها تتحرك ومنعها صراخها من سماع صوتها تتحطم
جذبها بوحشية كما لو كان يجر وراءه حيواناً ذليلاً ، ولم يكن ذلك صعباً بالنسبة له ..ولا أدري هل كان ذلك بسبب قوته أم استسلامها له
لفح الهواء القادم من باب المنزل وجهها وشعرت برذاذ المطر يلامسها .. ، ألقى بها إلى الخارج بقسوة ..محملقاً في وجهها من فوق كتفه بلؤم ...وهو يحسب نفسه المنتصر
" فاليكن الجحيم مأواكِ حيثما تذهبين أيتها الماجنة .."
أغلق الباب في وجهها ، وحسبته سيتحطم لشدة ما أقفله ...استغرقت تتأمل السماء قليلاً ، ثم ترسل بنظراتها إلى المنزل وإلى الحقول خلفه ..
عبثاً حاولت النهوض والتحكم بهيكلها المحطم ..، أحست بكل جزء من جسدها يؤلمها ..ويمنعها من الحركة
" فالتذهب للجحيم أنت وإخوتك " تمتمت بها متأملة المنزل للمرة الأخيرة .. ومضت في طريقها حيث لا تعرف إلى أين تتجه
أو ربما هي ستتجه للمنزل في نهاية الطريق ..حيث تعيش أفضل وأعز صديقات السيدة البارونة ..برق في داخلها أمل بأنها قد تعتني بها ..تمتمت مجدداً بالسخرية اللاذعة ذاتها
" أولاد عاقَون ..."
التقطت أنفاسها بعد أن وصلت أخيراً ، ولم تكترث كم تبدوا مثيرة للشفقة ..مبللة ، وممزقة الملابس ، وفي حال فوضى
فتحت لها الخادمة العبوس الباب وسارعت تخبرها برغبتها في رؤية سيدتها ..اختفت من أمامها مغلقة الباب بعنف لايقل عن الذي رأته قبل قليل .
تملَكها الإيمان الضئيل ، ورفعت رأسها إلى النافذة العلوية حيث ينبعث صوت موسيقى البيانو العذب ، انتظرت الخادمة لتعود بفارغ الصبر؛ فهي بحاجة ماسة لتبديل ثيابها ، ومعالجة جراحها وكسورها ..
عادت الخادمة أخيراً ، وأشرق وجه سابيينا المجهد ، المتعب .. كأنما هو قمر قد أتعبه اقتباس نور الشمس
" تسأل سيدتي عن حال السيدة البارونة .."
" لقد ماتت البارونة .."
ضيقت جبينها الواسع ، متعجبة من نفسها كيف نطقت بهذه الكلمات بشكل طبيعي ..في نهاية الأمر هي تمتلك شيئاً من طباع أبناء سيدتها ..ربما يجدر بها العودة إليهم إذاً ..ابتسمت لنفسها على أفكارها التافهة
عادت الخادمة بعد أن أطالت الغيبة .. وتوقعت سابيينا أنها ستفسح لها المجال في الدخول ..إلا أن ماحدث كان عجيباً
كانت برفقتها خادمة أخرى وكانت الاثنتان تحملان سطلاً أزرق متوسط الحجم ..
استيعابها البطيء تغلب على فطنتها وذكاءها ... وفي لحظات كانت مبللة من رأسها لأخمص قدميها بعد أن سكبت الخادمتان الماء في السطل عليها فزاد بللاً إلى بللها
" تقول لكِ سيدتي ارحلي ..فهي لن تقبل بمتشردة في منزلها .."
أغلقت الباب في وجهها ..وكالعادة بقوة ..، تنهدت بعمق..والثقل فوق ظهرها يزداد .. آذاها كون الأبواب قد أغُلِقت أمامها
والرحمة نفيت من قلوب الناس ..طأطأت رأسها بانكسار وراحت تجر أذيال خيبتها ..خائفة ، مذعورة مما قد يخبئه لها الغد وهي البائسة ، المشردة بدون بيت أو عائلة
" فاليعاقبكم الله ..ولتخلّدوا في الجحيم على قسوتكم "
تمتمت بها لنفسها وهي تسير في طريقها بلا مستقر .بلا مكان تلتمس به المأوى ..ضائعة ، تائهة .. لاتعرف ماذا تفعل
تنهدت مجدداً ، ومضت في طريقها ..باحثة عن شخص ليقلها ، ليأخذها ، ليساعدها إلى أين تذهب
صعُب عليها إيجاد مكان تبيت فيه ..فقضت ليلتها في أحد الأزقَة الضيقة القذرة ..ضمَت جسدها المبلل بيديها وارتجفت شفاهها من البرد ..عبثاً حاولت النوم ..وعبثاً أمسكت دموعها البائسة
في اليوم التالي كان يجب عليها إيجاد مكان تنام به ، ولمَا لم يكن معها مال فإنها سارعت لتبيع شيئاً من شعرها الأسود الفاحم ، الطويل
"بسبع فرنكات آنستي .."
" سبع فرنكات ؟ أتهزأ بي ؟ "
" آوه أنتِ لا تريدين قصَه كله ، كما أنه أسود ..ربما لو كنتِ شقراء لكان الوضع سيختلف قليلاً "
صكَت على شفاهها بغيظ وسمحت له بقص جزء كبير من شعرها المموج الفاتن ..لمست أطراف التي باتت تصل لأسفل كتفها وأمسكت رباطة جأشها محاولة أن لاتبكي..وفي النهاية وجدت لنفسها غرفة متواضعة عند سيدة بدينة ، سيئة الأخلاق
أيقظتها بعد يومين بقسوة صائحة
" أخرجي الآن من منزلي يا عبدة السوء .." غدت الرؤية لديها معدومة ..مشوشة ، وغير واضحة إطلاقاً
" انهضي أيتها الماجنة هيا ."
استلقت بالاتجاه الآخر متجاهلة إعطاءها أي جواب ..فالتصرخ كما تريد..هي لم تنم جيداً منذ أيام عدة ..ويحق لها الحصول على بعض الراحـ...شهقت وكأن فاجعة أصابتها عندما أمطر السقف مياهاً أصابتها بالبلل ..هه بل أغرقتها كلياً..
نهضت من مكانها بإقتضاب ..وودت لو تركلها وتلفيها أرضاً ..بل وتسكب فوق رأسها الماء أيضاً ..
تكلمت بصوت نائم ، منزعج
" الماء نعمة ..لا تسكبوه فوقي حتى لايعاقبكم الله ويمنعه عنكم .."
قبضت كف السيدة السمينة على رسغها المصاب بقوة ..ودونما إهتمام ..أجبراها على محاولة انتزاع يدها المسكينة
وعندما حدث ذلك كانت ملقاة في الشارع والباب موصد بإحكام في وجهها
حاولت إلتقاط أنفاسها ..وراح صدرها يعلو ويهبط في حنق ، وامتحاق..أحكمت أعصابها التالفة ..ونهضت واقفة ..
ضربت الأرض الترابية بقدمها اليسرى ..صائحة بغضب
" تباً للعنصرية ..آخ كم أكره الفرنسيين..مملوؤون بكبرياء مثير للإشمئزاز "
ضربت الأرض مجدداً وصاحت بالطريقة الحانقة ذاتها ..
" تباً لأوروبا كلها .."
ارتخى كتفاها..وأوشكت دموعها على النزول من فرط غيظها .. تماسكت ، وأحكمت رباطة جأشها بتحدَي ..فهي لن تبكي لمثل هؤلاء التافهين ..المملوءين بالفخر الفارغ
" إن لم أكن فرنسية ..فمن أنا .؟ "
كانت تتمتم بها لنفسها في سيرها نحو المجهول ، سير بلاهدف حيث لاتعرف إلى أين تذهب..جلست على أقرب أرض باردة عند الحائط..وضمت قدميها إلى صدرها بعد أن زفرت بعمق .. إنها تستحق لقب المشرَدة وبجدارة الآن ..
لقد مضت أربعة أيام منذ ماتت سيَدتها البارونة ، وتشرَدت بعدها في طرقات تولوز ، الموحشة والكريهة
أين تذهب الآن ..؟ ومن سيقبل بها ؟ لقد اتفقت مع تلك السيدة على العيش معها في المنزل مقابل مبلغ تدفعه كل شهر
" آوه فتاة صغيرة ..جميلة ."
رفعت رأسها بحدة ، وتوجَست في نفسها خيفة من المرأة صاحبة الرداء الأسود المحيط بوجهها الجميل ..
جلست على الأرض بقربها وسألتها باهتمام
" مالذي تفعله شابة جميلة مثلكِ هنا ها ..؟ طرقات تولوز ليست بالشيء الآمن كما تعلمين."
كشَرت باقتضاب وراحت تهز جسدها للأمام والخلف بضيق ..
" لا أعرف أين أذهب ..لا منزل لي ."
مالت شفاهها المكتنزة بمكر أنثوي ..ومالت نحو سابيينا الصامتة ..بعد أن فضَلت عدم قول شيء لهذه السيدة
قرَبت وجهها منها بالمكر ذاته ...همست بخفوت مثير للريبة و.....الاشمئزاز
" تعرفين ..بمثل جمالك..تستطيعين ان تجدي رجـ...
جزرتها بعنف و دفعتها بعيداً عن وجهها ..استقامت بسرعة وغادرت مكانها ..فآخر ما تريده هو أن تصبح بائعة هوى
" لن تهربي أبداً...هذا هو مصيركِ.. أنتِ مجرَد غجرية شرقية .."